كيف تنشأ الأفكار العظيمة .. تقرير
مما لا شك فيه أن التنبؤ هو فن راقي عندما يتعلق الأمر بمستقبل البشرية و الحياة.. و هذا صحيح بشكل كبير لأن توقع الأفكار التي قد تغير حياتنا مثلا في سنة 2030 شيء صعب جدا. في سنة 1900 تم سؤال العالم الرياضياتي الكبير هنري بوانكري - Henry Poincare عن كيفية التنبؤ بتوجهات العلوم و الأفكار في رسالة فأجاب
لو كنا طلبنا من أي عالم في سنة 1800 أن يتنبأ بالأفكار التي وصلنا لها الان.. ياإلهي سيخبرنا بأشياء غريبة و خاطئة، ليست كالتي نتداولها الان.. التفكير بهذه الطريقة يجعلني أتفادى الحديث عن المستقبل و الأفكار العظيمة التي ستسود فيه، لأننا إذا كنا قادرين فعلا على معرفة الأفكار العظيمة في المستقبل فلن تبقى مثيرة و مدهشة
و كما قال Poincare، بإمكاني أن أكتفي بهذا الإقتباس لاختصار الحديث و أتوقف عند هذه الفكرة التي تدل على صعوبة معرفة كيفية نشأة الأفكار العظيمة في المستقبل.. لكن أردت في هذا التقرير دراسة كيفية نشأة و إنتشار الأفكار العظيمة التي يتم تقبلها و العمل بها لتؤثر في مستقبل البشرية.
في الحقيقة Poincare قدم لنا بهذه المقولة تنبؤا، بمعنى أنه سيحدث في المستقبل كما يحدث الان أو البارحة أشياء مدهشة، لم نكن لنتوقعها الان.. و ستلعب الأفكار المبتكرة دورا أساسيا في تحديد مستقبلنا، دعنا نقل إكتشافات نستطيع الإعداد لها لكن لم يكن ممكنا توقعها.
كما يعلم الجميع و إتفق عليه المفكرون فإن الأفكار لها تأثير قوي في تغيير حياتنا، الفوز في المعارك، تحقيق أشياء عظيمة.. كل مانراه في حياتنا من أشياء مميزة لم تكن سوى فكرة في عقول أصحابها. من بين الأمثلة في القرن 20 على قوة الأفكار في تغيير حياتنا، على يمين الصورة نجد العالم الإنجليزي آلان تورينج - Alain Turing الذي ولد تقريبا منذ 100 عام، ساهمت الأفكار الرياضية التي قدمها في كسر الشفرة السرية التي كان يستعملها قوات البحرية الألمانية في الحرب العالمية الثانية، كما ساهمت أبحاثه و أفكاره في تطوير الحواسيب.
في وسط الصورة بول إيردوش - Paul Erdős العالم الرياضياتي الهنغاري الكبير، الذي تأثر في بدايته بصعوبة ظروفه إلا من ثراء الأفكار التي كان يحملها في دماغه، و تضامن بعض أصدقائه، ما جعل منه أحد علماء الرياضيات الأكثر تأثيرا في القرن العشرين. كما نجد في يمينها ليو سيلار - Leó Szilárd العالم الفيزيائي الهنغاري الذي كان أول من إقترح فكرة إستعمال الطاقة النووية في الحرب سنة 1933. هنا تتضح لنا قوة تأثير الأفكار العظيمة على عالمنا، جميع المؤسسات البحثية عبر العالم يتم قياس مدى تأثيرها عبر الأفكار الجديدة التي تقدمها على شكل أوراق بحثية.. جميل جدا سيقول القائل، لكن كيف يتم الأمر ؟ كيف تنشئ الأفكار العظيمة ؟
لنعطي الكلمة لعالم الرياضيات Poincare مرة أخرى، يقول فيها عن كيفية إلهامه و نشأة فكرة مبرهنة عظيمة في دماغه
كنت مشمئزا من إخفاقاتي المتوالية، لذلك قررت أن أنسى كل شيء و أقوم بقضاء بعض الأيام في شاطئ البحر، و أن أفكر في أشياء غير أبحاثي.. وفي يوم ما و أنا أقوم بالتنزه في جرف أتتني الفكرة بطابع من البساطة الفهم والدقة المتناهية بأن ... بعد ذلك يكمل فكرته الرياضية الهندسية التي لانود الخوض فيها
إذن ما يصفه Poincare هو أن الفكرة هي عملية معقدة، بعد فترة من العمل الشاق و بذل الجهد، يأتي الإلهام بها في وقت غير متوقع و غير مرتبط بما تقوم به. و هذا يدل على أن دماغنا و عقلنا في حالته اللاواعية يشتغل بطريقة مدهشة..
لذا أقول للقارء الشاب، إذا كنت في حاجة للخروج مع أصدقائك للإستمتاع ببعض الوقت في لحظات الامتحانات أو الدراسة، استعمل طريقة Poincare وأخبر والديك برغبتك في الخروج لإستلهام الأفكار :D ..
الفكرة العظيمة هي تجميع لمفاهيم معقدة تعرض بطريقة مبسطة، قد تبدأ بمحادثة بين شخصين عاديين، أو في دماغ عالم مرموق، لتمر إلى مرحلة التجسيد بالبرهان العلمي.. ثم النشر على شكل ورقة بحثية لتأخذ حيزا أكبر و يتم نقدها و تبادل الأراء حولها، ثم احتضانها و المشاركة في تطويرها.. وبين البداية و النهاية الفكرة العظيمة هي تحقيق قد يستغرق سنوات، يعرف فيها صعودا و نزولا، ترافقه لحظات من السعادة و التعاسة، المجد و الاكتئاب، الإعتراف و التجاهل... عملية فوضوية chaotique تمثل في النهاية ولادة فكرة في الدماغ البيولوجي، قوتها تمثل في جعل أدمغة تنتمي إليها و تتبناها..
قد نتكلم لوقت طويل عن الأفكار، تاريخها، جغرافيتها، إنتشارها و تبادلها.. لكني سأخصص بقية المقال لذكر العناصر الضرورية لخلق أفكار عظيمة.. أن تكون ذكيا فهذا غير كاف لتكون قادرا على تغيير العالم بأفكارك.. جميع هذا العناصر عبر التاريخ توفرت لتساهم في نشأة الأفكار، لكنها ربما تطورت مع الوقت طبعا.
التوثيق - Documentations
كل ما من شأنه تغذية دماغك بما في ذلك الموسوعات، نتائج الأبحاث، المعلومات، عروض النتائج.. في يومنا هذا أحدثت تقنيات المعلومات و هندسة الكمبيوتر ثورة كبيرة في توثيق الأفكار و المعلومات و الحصول على المنشورات و الكتب بسرعة كبيرة.. فبنقرة بحث صغيرة في الموسوعات الإليكترونية بإمكانك الحصول على كم هائل من المعلومات و المبرهنات الرياضية على سبيل المثال. حتى و أن نسيت إسم الصيغة، بإمكانك العودة متى شئت لإلقاء نظرة على النتائج و الحلول.
الحافز - Motivation
بغير هذا العنصر الثاني المهم جدا وهو الحافز فأنت لن تقوم بشيء في حياتك. لذلك الدافع و الحافز من بين التهديدات التي لا يجب إغفالها في الدول التي تتخذ من العلوم الصناعية أساسا لتقدمها، نظرا لعدم وجود الحافز لدى جيل الشباب لأخذ وظائف في مجال العلوم بالرغم من ما فيها من متعة.. لكن من أين يأتي الحافز؟ سنكون سعداء لو علمنا الجواب ..يتنتقل الحافز في بعض الأحيان من المعلم للتلميذ، من الأباء للأبناء، قد تحصل على الدافع من قراءتك لكتاب، من صورة جميلة. من تجارب كما هو موضح في الصورة حيث قام مجموعة من الأطفال بنشر ورقة بحثية في مجلة علمية مرموقة، قامو فيها بالتوصل إلى بعض النتائج بخصوص النحل و من بين النتائج التي توصلو إليها في سنهم المبكرة ختموا ورقتهم البحتية بهاته العبارة
اكتشفنا أيضا أن العلم ممتع و رائع لأننا قمنا بأشياء لم يسبق لأحد في وقت مضى القيام بها
نتيجة رائعة أتمنى لكل طفل أن يكتشفها منذ الصغر! بإمكانك مطالعة كامل الورقة البحثية .
بيئة العمل - Environment
لكي تنشأ الفكرة العظيمة يلزم بيئة عمل توفر مجموعة من الشروط الثقافية و المعدات المادية. وسط العمل مهم جدا، قد يكون مختبرا بحثيا أو معهدا يضم باحثين، أو الوسط الذي تعيش فيه بما يوفر من لقاءات و تبادل أفكار .. أثبت علماء الاجتماع و التاريخ أن الوسط بما يوفره من مناخ تسامحي، ظروف تبادلية، تشاركية تساهم في ترعرع و نشأة الأفكار العظيمة.. و إذا ماعدنا للتاريخ قليلا ساهمت الجغرافيا التي تنعم بها مدينة كبدابست Budapest في هنغاريا في ظهور العالمين Paul Erdős و،Leó Szilárd. بدون احتضان لفكرة معينة من طرف أشخاص علمية آخرين في وسطك فإنها لن ترعرع. لهذا يجب
علينا استرجاع دور الوسط و المدينة كوحدة للابتكار و خلق الأفكار العظيمة..
التبادل و المشاركة - Exchange
تبادل المعلومات مع الأشخاص، الزملاء، ضروري لنشأة و تغدية الأفكار العظيمة.. سواء كان ذلك عن طريق تدوينها في موقع أو مدونة لكي يطلع عليها القراء، أو عن طريق تبادل الرسائل الإليكترونية.. كمثال على التبادل و التعاون قام عالم الرياضيات تيم جوير - Tim Gower بدراسة مدهشة تجمع مئات الباحثين في هذا المجال للقيام بالتعاون عبر الإنترنيت لحل نظرية انطلاقا من مدونته.
التقيد - Constraint
يتجلى دور التقيد بأمور معينة في البحث العلمي في كونه يساهم في الخلق و الإبداع، فكلما أحاط العالم نفسه بقيود كلما كان ذلك حافزا كي يبدع و يقوم بحل المشكلات التي يواجهها، و يقدم أشياء وأفكار جديدة.. من الأمثلة الحية الرواية الأدبية "La disparition" التي قام بتأليفها George Perec سنة 1968 و لم يستعمل فيها الحرف "e" طوال 319 صفحة .
العمل والحدس - Work and Intuition
العمل المتواصل المرافق باستعمال الحدس شروط ضرورية لخلق أفكار جديدة. هل تعلم أنه 90 % من براءات الاختراع التي تقدم كل سنة حول العالم لا تقود إلى أي اختراع و بالتالي فهي لا تقدم الإضافة الجديدة .. هذا طبيعي لأن غالبية الأفكار لا تعمل و لا ترتقي للتكريس و التطبيق.. لذا فإن الباحث يمضي وقته في كتابة أفكاره اللامعة و إرسالها لسلة المهملات، لأنها لن تعمل.. لكن إن كان محظوظا فإن واحدة من هاته الأفكار سيتم إنقاذها من الوصول لسلة المهملات لتكون بداية مغامرة جديدة و تصبح فكرة عظيمة.
لا يتوقف العمل هنا عند نشأة هذه الفكرة، لكي تنمو بشكل طبيعي يجب تداولها و تدارسها بكل حرية، يقول توماس جيفرسون
من بين كل الممتلكات الموجودة في الطبيعة، الأفكارالقوية ليست ملكا للفرد وحده. حين يتم تداولها فإنها تصبح ملكا للجميع مهما تجاهلو ذلك.. و مايجعل الملكية الفكرية الأكثر خصوصية هي أنها لا تصل بالمشاركة فإالجميع يحصلون على نفس الفائدة.. من يتلقى فكرة مني ينير ظلامه دون أن ينقص من نوري
و في الختام، ماهي في نظرك الشروط اللازمة التي لم أتطرق لها لكي تنشئ الأفكار العظيمة ؟